الهجرة بصمة فريدة في التاريخ الاسلامي


الهجرة النبوية بصمة فريدة في التاريخ الاسلامي
     مع بداية كل عام هجري جديد يكون كل منا على موعد مع تأمل هذا الحدث العظيم "الهجرة" الذي يعد مرحلة فارقة في حياة الأمة الإسلامية على مدى تاريخها فهو نقطة التحول في حياة الدعوة الاسلامية من المحلية إلى العالمية و من بيئة الظلم و الجور إلى العدل و الجوار و من الإنحصار إلى الإنتشار و من الخوف إلى الأمان و من فئة مؤمنة مضطهدة إلى دولة مؤمنة لها كيان و أرض و دستور و سيادة... بحق إنها البصمة الفريدة للهجرة النبوية الشريفة التي إستحقت بها أن تكون بداية للتقويم الإسلامي.
من الخطوات التي سبقت الهجرة النبوية الشريفة و منحتها ميزة التفرد
*تفرد رسالة الإسلام التي يحملها النبي صلى الله عليه و سلم بالشمولية و المنهج التربوي الذي يسير عليه في تربية اصحابه و الرعيل الأول للدولة الناشئة
·       استقامة الرسول القدوة و من خلفه صحابته الكرام على المنهج الإسلامي قولا و فعلا كما أراد الله لهذا المنهج أن يطبق
·       معرفة الرسول صلى الله عليه و سلم مواطن الضعف و القوة لكل فرد من أفراد الفئة المؤمنة و توظيفها التوظيف الأمثل من أجل أن تتكامل و تتكاتف الجهود لتبني معه هذا الصرح العظيم "الأمة الإسلامية"
·       تهيئة المدينة لإستقبال الفئة المؤمنة و إحتضانها و الذود عنها بكل ما تملك من قوة و ذلك من خلال الإتصال بالأنصار في مواسم الحج و العمرة ثم بيعة العقبة الأولى و الثانية و إرسال السفراء من المسلمين لنشر تعاليم الدين الإسلامي بين أهل المدينة
·       إلمام الرسول صلى الله عليه و سلم بالبيئة المحيطة به من أفراد و ارض و نقاط الضعف و القوة لكل منها
و يظل السؤال الذي يجول بخاطر كل منا كيف إستطاع الرسول بهذه الفئة المؤمنة قليلة العدد و العدة إرساء قواعد الدولة الاسلامية و منحها صفة التميز في هذه الفترة الوجيزة في عمر الأمم؟
* النية
النية كانت و ستظل هى الفاعل الرئيسي لتفرد الأمة الإسلامية بتوجيه العمل كله لله في كل شأن من شئونها و بإختيار كل ما هو أصلح و أحسن قولا و فكرا و سلوكا بما يرضي الله لعباده المؤمنين و للرسالة الخاتمة
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق عليه.
فكانت الهجرة لله و بدين الله
* جيل لا يقبل لنفسه الا ان يكون الاول
 قال تعالى: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما"(74) الفرقان
*جيل لا يعرف الاستكانة او البطالة
تجلّى هذا المعنى في حدث الهجرة فالصدِّيق رفيق السفر وبناته اسماء و عائشة رضي الله عنهما تحفظا السر وترتبا الزاد، والابن ينقل الأخبار ويعفو الآثار، كل ذلك في صورة تبرز التنوع والتكامل بحسب قدرة كل فرد من افراد المجتمع المسلم العامل من أجل إعلاء كلمة الله
فالكل يبذل والجميع يجتهد و يضحي بكل ما يملك من قوة و مال و وقت حتى الضعفة والمساكين لهم دورهم حتى و إن كانوا لا يملكون القوة و المال الذي يقدمونه لدعوتهم ينبه إلي ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «إنما ينصُر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم».رواه النسائي
للهجرة النبوية الشريفة تضحيات عظيمة لا تقل عظمة عن نتائجها و منها:
فالهجرة ذاتها تضحية عظيمة فيها ما فيها من الألم من ترك الأهل و الأحبة و الأرض و العمل الى كل ما هو جديد مما يشق على النفس احتماله و تقبله بسهولة
كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم عند خروجه من مكة:" والله إنك لأحب الأرض إلي ، وإنك لأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ماخرجت رواه ابن ماجة
التجريد من المال
عندما أراد صهيب أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبعه نفر من قريش مشركون، فنزل فانتثل كنانته- أي استخرج ما فيها من سهام- فقال: قد علمتم يا معشر قريش أنى أرماكم رجلاً بسهم، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم شأنكم بعد ذلك، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وتخلوا سبيلي، قالوا: نعم.. فأنزل الله تعالى على رسوله ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) (البقرة)، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صهيبًا قال: "ربح البيع يا أبا يحيى" مرتين، وفي رواية: قالوا له: يا صهيب قد قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك! والله لا يكون ذلك أبدًا. (تفسير آية البقرة، وحياة الصحابة 1/ 358).
*السجن
 تعرض بعض الصحابة للسجن على أثر محاولتهم الهجرة إلى المدينة عندما لحق بهم المشركين فأمسكوا بمن طالتهم إيديهم و كانوا يوثقوا ايديهم و ارجلهم في بيوت من بيوت مكة أو في غرف ليس لها سقف إمعانا في الظلم و التعذيب حيث إن الشمس تكون حارقة في نهار مكه تلك البيئة الصحراوية شديدة الحرارة كما فعل مع عياش و هشام ابن العاص(1)

من نتائج الهجرة "دولة فريدة تتحرك على الأرض"
    من أهم نتائج الهجرة النبوية الشريفة بناء الدولة الإسلامية بكل ما تحمل الكلمة من معنى دولة في العصر الحديث فهى تشمل أرض و شعب و رئيس و إدارة و معاهدات مع الخارج و ترابط الداخل بالمؤاخاة بين الأوس و الخزرج و المهاجرين و الأنصار في نسق فريد لم تشهده المنطقة العربية من قبل إنه يعد مرحلة إنتقال بالعرب من المحلية إلى العالمية من خلال الدين الإسلامي الذي يحمل في ذاته القوة الفكرية و الحركية نحو العالمية الحديثة على مر العصور تحت مظلة دستور واحد "القرآن الكريم" وضع فيه رب العالمين كل أسس العدل و المساواة و الحكم بين أفراد المجتمع الاسلامي مسلمين و غيرهم من أصحاب العقائد المختلفة  
   كما حملت الهجرة النبوية في رحمها سنة التدافع بين الفئة المؤمنة و غيرها من أصحاب العقائد الفاسدة المحاربين لدين الله و خاتم النبين و كان دائما النصر حليف المؤمنين بإيمانهم و تمسكهم بمنهجهم القويم إنها سنة الله في الارض قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ" [محمد:7].
    منذ أن استقر أمر المسلمين في المدينة و أصبحت لهم دولة و بدأ انتشار العدل بين الناس لم يركن الرسول القائد و لا جنده الأكارم الى هذه الحال بل انشغلوا بتأمين حدود الدولة الإسلامية و التعرف على البيئة المحيط بالمدينة من خلال إرسال السرايا فهم لم يبحثوا في حقيقة الأمر إلى مكان يأمنوا فيه على أنفسهم و لكنها دعوة الله و البحث لها عن منطلق من بعد ان ضاقت بها مكة و تجمد انتشار الدعوة بها ....و نتيجة وضوح الهدف لدى الرعيل الاول و هذا الجيل الفريد فلم تتوقف الدعوة يوم و لم يتوقفوا عن تطوير انفسهم في شتى المجالات التي تخدم الدعوة حتى أن أحدهم تعلم لغات القبائل المختلفة في مدة قياسية خدمة لدعوة الله و نشرا لدينه الذي إرتضاه لعباده                              
أخيرا..........
ينبغي أن نتذكر أن عودة الأمة الإسلامية لتحتل مكانتها الفريدة التي تستحقها لن تكون إلا إذا علم كل منا أن صناعة البصمة الفريدة في تاريخ الأمة الإسلامية في أى زمان و مكان لم تخلو قط من أفراد نذروا أنفسهم لله و أستقاموا على منهج الله كما أراد لهم ربهم مع الأخذ بأسباب القوة و النصر و تهيئة المجتمع للعودة إلى الفكرة الإسلامية و العمل لها و التوكل على الله و ايقنوا أن لعودة الريادة للأمة الإسلامية ثمن لابد أن يدفع اولا من اموالهم و دمائهم و اعدوا أنفسهم و حملوا مسؤولية عودة الإسلام إلى حركة الحياة اليومية من خلال حركة الأفراد وفقا لمبادئة و ضوابطه التي تتسم بالعادل و التسامح
 امل صبري
 
(1)راجع السيرة النبوية د.الصلابي ج1صـ332

0 لأضافة تعليقات:

إرسال تعليق